فصل: سنة ست عشرة ومائتين وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة ست عشرة ومائتين وألف:

.شهر المحرم سنة 1216:

واستهلت بيوم الخميس وباستهلالها خف أمر الطاعون وفي ليلة الجمعة تلك أرسل عبد العال الآغا وأحضر الشيخ محمد الأمير ليلاً الى منزله فبيته عنده ولما أصبح النهار طلع به الى القلعة وحبسه عند المشايخ بجامع سارية والسبب في ذلك أن ولد الشيخ المذكور كان من جملة من يستحث الناس على قتال الفرنسيس في الواقعة السابقة بمصر، فلما انقضت هرب الى جهة بحري ثم حضر بعد مدة الى مصر فأقام أياماً ثم رجع الى قوة بإذن من الفرنسيس، فلما حصلت هذه الحركة وتحذروا شدة التحذر وآخذوا الناس بأدنى شبهة، وتقرب إليهم المنافقون بالتجسس والإغراء ذكر بعضهم ذلك لقائمقام، وأدخل في مسامعه أن ابن الشيخ المذكور ذهب الى عرضي الوزير والتف عليهم، فأرسل قائمقام الى الشيخ قبل تاريخه، فلما حضر سأله عن ولده المذكور فأخبره أنه مقيم بفوة، فقال له: لم يكن هناك وإنما هو عند القادمين، قال له: لم يكن ذلك وإن شئتم إرسلت إليه بالحضور، فقال له: أرسل إليه وأحضره، فقام من عنده على ذلك وأمهله ثمانية أيام مدة مسافة الذهاب والمجيء، ثم خاطبه على لسان وكيل الديوان أيضاً فوعده بحضوره أو حضور الجواب بعد يومين، واعتذر بعدم أمن الطريق فلما انقضى اليومان أمروا عبد العال بطلبه وإصعاده الى القلعة ففعل.
وفيه حضر جملة من عساكر الفرنساوية من جهة بحري وتواترت الأخبار بوصول القادمين من الانكليز والعثمانية الى الرحمانية وتملكهم القلعة ومابالقرب منها من الحصون الكائنة بالعطف وغيره، وذلك يوم السبت خامس عشرين الحجة.
وفيه حضرت زوجة ساري عسكر كبير الفرنسيس بصحبة أخيها السيد علي الرشيدي أحد أعضاء الديوان وكان خرج بها من رشيد حين ما ملكها القادمون، ونزل بها في مركب وأرسى بها قبالة الرحمانية، فلما حصلت واقعة الرحمانية وأخذت قلعتها حضر بها الى مصر بعد مشقة وخوف من العربان وقطاع الطريق وغير ذلك، فأقامت هي وأخوها ببيت الألفي بالأزبية نحو ثلاثة أيام ثم صعدا الى القلعة.
وفيه قربت العساكر القادمة من الجهة الشرقية وحضرت طوالعهم الى القليوبية والمنير والخانكة لأخذ الكلف، فتأهب قائمقام بليار للقائهم وأمر العساكر بالخروج من أول الليل، ثم خرج هو في آخر الليل، فلما كان يوم الأحد رابعه رجع قائمقام ومن معه ووقع بينه وبينهم مناوشة، فلم يثبت الفرنسيس لقلتهم ورجعوا مهزومين وكتموا أمرهم ولم يذكروا شيئاً.
وفي خامسه رفعوا الطلب عن الناس بباقي نصف المليون وأظهروا الرفق بالناس والسرور بهم لعدم قيامهم عند خروجهم للحرب وخلوا البلدة منهم وكان يظنون منهم غير ذلك.
وفيه أخذت جملة من عدد الطواحين وأصعدت الى القلعة وأكثروا من نقل الماء والدقيق والأقوات إليها وكذلك البارود والكبريت والجلل والقنابر والبنب، ونقلوا ما في الأسوار والبيوت من الأمتعة والفرش والأسرة وحملوه إليها ولم يبقوا بالقلاع الصغار إلا مهمات الحرب.
وفيه طلبوا الزياتين وألزموهم بمائتي قنطار شيرج وسمروا جملة من حوانيتهم، وخرج جماعة من الجزارين لشراء الغنم من القرى القريبة، فقبض عليهم عساكر العثمانية القادمة ومنعوهم من العود بالغنم والبقر، وكذلك منعوا الفلاحين الذين يجلبون الميرة والأقوات الى المدينة. فانقطع الوارد من الجهات البحرية والقليوبية وعزت الأقوات وشح اللحم والسمن جداً، وأغلقت حوانيت الجزارين، واجتهد الفرنساوية في وضع متاريس خارج البلد من الجهة الشرقية والبحرية وحفروا خنادق وطلبوا الفعلة للعمل فكانوا يقبضون على كل من وجدوه ويسوقونهم للعمل، وكذلك فعلوا بجهة القرافة وألقوا الأحجار العظيمة والمراكب ببحر انبابة لتمنع المراكب من العبور وابتدأوا المتاريس البحرية من باب الحديد ممدودة الى قنطرة الليمون الى قصر إفرنج أحمد الى السبتية الى مجرى البحر.
وفي ثامنه بعث قائمقام بليار فأحضر التجار وعظماء الناس وسألهم عن سبب غلق الحوانيت فقالوا له من وقف الحال والكساد والجلاء والموت، فقال لهم: من كان موجوداً حاضراً فألزموه بفتح حانوته وإلا فأخبروني عنه، ونزلت الحكام فنادت بفتح الحوانيت والبيع والشراء.
وفي عاشره شرعوا في هدم جانب من الجيزة من الجهة البحرية، وقربت عساكر الانكليز القادمة من البر الغربي الى البلد المسماة بنادر عند رأس ترعة الفرعونية.
وفيه تواترت الأخبار بأن العساكر الشرقية وصلت أوائلها الى بنها وطحلا بساحل النيل، وأن طائفة من الانكليز رجعوا الى جهة إسكندرية، وأن الحرب قائم بها، وأن الفرنساوية محصورون بداخل الاسنكدرية والانكليز ومن معهم من العساكر يحاربون من خارج وهي في غاية المنعة والتحصين، وأن الانكليز بعد قدومهم وطلوعهم الى البر ومحاربتهم لهم المرات السابقة أطلقوا الحبوس عن المياه السائلة من البحر المالح منه الى الجسر المقطوع حتى سالت المياه وعمت الأراضي المحيطة بالإسكندرية وأغرقت أطياناً كثيرة وبلاداً ومزارع، وأنهم قعدوا في الأماكن التي يمكن الفرنسيس النفوذ منها بحيث أنهم قطعوا عليهم الطرق من كل ناحية.
وفي ثاني عشره نزلت امرأة من القلعة بمتاعها واختفت بمصر فأحضر الفرنسيس حكام الشرطة وألزموهم بإحضارها، وهذه المرأة اسمها هوى كانت زوجة لبعض الأمراء الكشاف. ثم أنها خرجت عن طورها وتزوجت نقولا وأقامت معه مدة، فلما حدثت هذه الحوادثت جمعت ثيابها واحتالت حتى نزلت من القلعة وهي على حمار ومتاعها محمول على حمار آخر فنزلت عند بعض العطف وأعطت المكارية الأجرة وصرفتهم من خارج واختفت، فلما وقع عليها التفتيش وأحضروا المكارية، قالوا: لا نعلم غير المكان الذي أنزلناها به وأعطتنا الأجرة عنده. فشددوا على المكارية ومنعوهم من السروح وقبضوا على أهل الحارة وحبسوهم، ثم أحضروا مشايخ الحارات وشددوا عليهم وعلى سكان الدور وأعلموهم أنه إن وجدت المرأة في حارة من الحارات ولم يخبروا عنها نهبوا جميع دور الحارة وعاقبوا سكانها، فحصل للناس غاية الضجر والقلق بسبب اختفائها وتفتيش أصحاب الشرطة، وخصوصاً عبد العال فإنه كان يتنكر ويلبس زي النساء ويدخل البيوت بحجة التفتيش عليها فيزعج أرباب البيوت والنساء ويأخذ منهن مصالح ومصاغاً ويفعل ما لا خير فيه ولا يخشى خالقاً ولا مخلوقاً.
وفي خامس عشره، قبضوا على ألطون أبي طاقية النصراني القبطي وحبسوه بالقلعة وألزموه بمبلغ دراهم تأخرت عليه من حساب البلاد.
وفي سادس عشره أفرجوا عن محمد أفندي يوسف ونزل الى بيته وكذلك الشيخ مصطفى الصاوي لمرضه.
وفيه انقضت دعوة تهمة الشيخ خليل البكري، ومحصلها أن خادم مملوكه ذهب عن لسان المملوك الى بليار قائمقام وأخبره أنه وصل الى أستاذه الشيخ خليل البكري المذكور فرمان من عرضي الوزير بالأمان، وكان هذا بإغراء عبد العال ليوقعه في الوبال ويحرك عليه الفرنسيس لحزازة بينه وبينه، فلما حضر الشيخ خليل على عادته عند قائمقام سأله عن ذلك. فجحده فأحضروا الخادم الذي بلغ ذلك فصدق على ذلك وأسند الى المملوك سيده فأحضروا المملوك وسألوه، فقال نعم، فقالوا له وأين الفرمان، فقال قرأه وقطعه، فقال الفرنساوية وكيف يقطعه هذا دليل الكذب لأنه لا يصح أن يتلقاه بالقبول ثم يقطعه، فقيل له ومن أتى به، قال فلان، فألزموا الشيخ بإحضار ذلك الرجل وحبس المملوك عند عبد العال يومين، وحضر الرجل فسألوه فجحد ولم يثبت عليه وظهر كذب الغلام والخادم، فعند ذلك طلب الشيخ غلامه فقال قائمقام إن قصاصه في شريعتنا أن يقطع لسانه، فتشفع فيه سيده وأخذه بعد أمور وكلام قبيح قاله الغلام في حق سيده.
وفيه حضر حسين كاشف اليهودي الى قائمقام وأخبره أن الأمراء الذين بالصعيد خرجوا عن طاعة الفرنساوية وردوا مكاتبتهم التي أرسلوها لهم بعد موت مراد بك، وأنهم مروا وتوجهوا الى بحري من البر الغربي وعثمان بك الأشقر ذهب من خلف الجبل الى جهة الشرق، فلما حصل ذلك ركب قائمقام وذهب للست نفيسة وأمنها وطيب خاطرها وأخبرها أنها في أمان هي وجميع نساء الأمراء والكشاف والأجناد ولا مؤاخذة عليهن بما فعله رجالهن.
وفي عشرينه، توكل رجل قبطي يقال له عبد الله من طرف يعقوب بجمع طائفة من الناس لعمل متاريس، فتعدى على بعض الأعيان وأنزلهم من على دوابهم وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه، فتشكى الناس من ذلك القبطي وأنهوا شكواهم الى بليار قائمقام، فأمر بالقبض على ذلك القبطي وحبسه بالقلعة، ثم فردوا على كل حارة رجلين يأتي بهما شيخ الحارة وتدفع لهما أجرة من شيخ الحارة.
وفيه وردت الأخبار بأن الوزير وصل دجوة.
وفي يوم الإثنين سمع عدة مدافع على بعد وقت الضحوة.
وفي ذلك اليوم قبل العصر طلبوا مشايخ الديوان فاجتمعوا بالديوان وحضر الوكيل والترجمان وطلبهم للحضور الى قائمقام، فلما حصلوا عنده، قال لهم على لسان الترجمان نخبركم أن الخصم قد قرب منا ونرجوكم أن تكونوا على عهدكم مع الفرنساوية وأن تنصحوا أهل البلد والرعية بأن يكونوا مستمرين على سكونهم وهدوهم ولا يتداخلوا في الشر والشغب، فإن الرعية بمنزلة الولد وأنتم بمنزلة الوالد، والواجب على الوالد نصح ولده وتأديبه وتدريبه على الطريق المستقيم التي يكون فيها الخير والصلاح، فإنهم إن داموا على الهدوء حصل لهم الخير ونجوا من كل شر، وإن حصل منهم خلاف ذلك نزلت عليهم النار وأحرقت دورهم ونهبت أموالهم ومتاعهم ويتمت أولادهم وسبيت نساؤهم وألزموا بالأموال والفرد التي لا طاقة لهم بها، فقد رأيتم ما حصل في الوقائع السابقة فاحذروا من ذلك فإنهم لا يدرون العاقبة ولا نكلفكم المساعدة لنا ولا المعاونة لحرب عدونا، وإنما نطلب منكم السكون والهدوء لا غير، فأجابوه بالسمع والطاعة وقولهم كذلك، وقرئ عليهم ورقة بمعنى ذلك، وأمروا الآغا وأصحاب الشرطة بالمناداة على الناس بذلك وأنهم ربما سمعوا ضرب مدافع جهة الجيزة فلا ينزعجوا من ذلك فإنه شنك وعيد لبعض أكابرهم، وأن يجتمع من الغد بالديوان الأعيان والتجار وكبار الأخطاط ومشايخ الحارات ويتلى عليهم ذلك، فلما كان ضحوة يوم الثلاثاء اجتمعوا كما ذكر وحصلت الوصية والتحذير وانتهى المجلس وذهبوا الى محلاتهم.
وفي ذلك اليوم أشيع حضور الوزير الى شلقان وكذلك عساكر الانكليز بالناحية الغربية وصلوا الى أول الوراريق.
وفي يوم الجمعة، غايته اجتمع المشايخ والوكيل بالديوان على العدة وحضر استوف الخازندار وترجم عنه رفاييل بقوله إنه يثني على كل من القاضي والشيخ إسمعيل الزرقاني باعتنائهما فيما يتعلق بأمر المواريث وبيت المال والمصالح على التركات المختومة، لأن الفرنساوية لم يبق لهم من الإيراد إلا ما يتحصل من ذلك، والقصد الاعتناء أيضاً بأمر البلاد والحصص التي انحلت بموت أربابها، فلازم أيضاً من المصالحة والحلوان والمهلة في ذلك ثمانية أيام، فمن لم يصالح على الالتزام الذي له فيه شبهة في تلك المدة ضبطت حصته ولا يقبل له عذر بعد ذلك، واعلموا أن أرض مصر استقر ملكها للفرنساوية فلازم من اعتقادكم ذلك وأركزوه في أذهانكم كما تعتقدون وحدانية الله تعالى، ولا يغرنكم هؤلاء القادمون وقربهم، فإنه لا يخرج من أيديهم شيء أبداً وهؤلاء الانكليز ناس خوارج حرامية وصناعتهم إلقاء العداوة والفتن والعثملي مغتر بهم، فإن الفرنساوية كانت من الأحباب الخلص للعثملي فلم يزالوا حتى أوقعوا بينه وبينهم العداوة والشرور، وأن بلادهم ضيقة وجزيرتهم صغيرة ولو كان بينهم وبين الفرنساوية طريق مسلوك من البر لا تمحي أثرهم ونسي ذكرهم من زمان مديد، وتأملوا في شأنهم وأي شيء خرج من أيديهم، فإن لهم ثلاثة أشهر من حين طلوعهم الى البر والى الآن لم يصلوا إلينا، والفرنسيس عند قدومهم وصلوا في ثمانية عشر يوماً، فلو كان فيهم همة أو شجاعة لوصلوا مثل وصولنا، وكلام كثير من هذا النمط في معنى ذلك من بحر الغفلة، ثم ذكر البكري والسيد أحمد الزر وأنه حضر مكتوب من رشيد على يد رجل حناوي لآخر من منية كنانة يذكر فيه أنه حضر الى إسكندرية مراكب وعمارة من فرانسا، وأن الانكليز رجعت إليهم، وأن الحرب قائمة على ظهر البحر، فقال الخازندار يمكن ذلك وليس ببعيد، ثم نقلوا ذلك الى بليار قائمقام فطلب الرجل الراوي لذلك، فأحضر الزر ورجلاً شرقاوياً حلف لهم أنه سمع ذلك بأذنه من الرجل الواصل الى منية كنانة من رشيد.

.شهر صفر الخير سنة 1216:

استهل بيوم السبت وفي ذلك اليوم قبل المغرب مشى عبد العال الآغا وشق في شوارع المدينة وبين يديه منادي يقول: الأمن والأمان على جميع الرعايا، وفي غد تضرب مدافع وشنك من الفلا في الساعة الرابعة، فلا تخافوا ولا تنزعجوا، فإنه حضرت بشارة بوصول بونابارته بعمارة عظيمة الى الإسكندرية وأن الانكليز رجعوا القهقرى، فلما أصبح يوم الأحد في الساعة الرابعة من الشروق ضربت عدة مدافع وتابعوا ضربها من جميع القلاع، وصعد أناس الى المنارات ونظروا بالنظارات فشاهدوا عساكر الانكليز بالجهة الغربية وصلوا الى آخر الورايق وأول انبابة ونصبوا خيامهم أسفل انبابة، وعند وصولهم الى مضاربهم ضربوا عدة مدافع فلما سمعها الفرنساوية ضرب الآخرون تلك المدافع التي ذكروا أنها شنك وأما العساكر الشرقية فوصلت أوائلهم الى منية الأمراء المعروفة بمنية السيرج والمراكب فيما بينها من البرين بكثرة، فعند ذلك عزت الأقوات وشبحت زيادة على قلتها وخصوصاً السمن والجبن والأشياء المجلوبة من الريف، ولم يبق طرق مسلوكة الى المدينة إلا من جهة باب القرافة وما يجلب من جهة البساتين من القمح والتبن، فيأتي ذلك الى عرصة الغلة بالرميلة ويزدحم عليه النساء والرجال بالمقاطف فيسمع لهم ضجة عظيمة، وشح اللحم أيضاً وغلا سعره لقلة المواشي والأغنام فوصل سعر الرطل تسعة أنصاف والسمن خمسة وثلاثين نصفاً والبصل بأربعمائة فضة القنطار والرطل الصابون بثمانين فضة والسيرج عشرين نصفاً وأما الزيت فلا يوجد البتة وغلت الأبزاز جداً، واتفق الى قصة غريبة وهو أني احتجت الى بعض أنيسون فأرسلت خادمي الى الأبزارية على العادة يشتري لي منه بدرهم فلم يجده وقيل له إنه لا يوجد إلا عند فلان هو يبيع الأوقية بثلاثة عشر نصفاً، ثم أتاني منه بأوقيتين بعد جهد في تحصيله فحسبت على ذلك سعر الأردب فوجدته يبلغ خمسمائة ريال أو قريباً من ذلك، فكان ذلك من النوادر الغريبة.
وفي يوم الإثنين ثالثه، حصلت الجمعية بالديوان وحضر التجار ومشايخ الحارات والآغا وحضر مكتوب من بليار قائمقام خطاباً بالأرباب الديوان والحاضرين، يذكر فيه أن حضر إليه مكتوب من كبيرهم منوباً بالإسكندرية صحبة هجانة فرنسيس وصلوا إليهم من طريق البرية. مضمونه أنه طيب بخير والأقوات كثيرة عندهم يأتي بها العربان إليهم، وبلغهم خبر وصول عمارة مراكب الفرنساوية الى بحر الخزر وأنها من قريب تصل الإسكندرية، وأن العمارة حاربت بلاد الانكليز واستولت على شقة كبيرة منها فكونوا مطمئنين الخاطر من طرفنا ودوموا على هدوئكم وسكونكم، الى آخر ما فيه من التمويهات وكل ذلك لسكون الناس وخوفاً من قيامهم في هذه الحالة، وكان وصول هذا المكتوب بعد نيف وأربعين يوماً من انقطاع أخبر من في إسكندرية ولا أصل لذلك.
وفي ذلك اليوم قتل عبد العال رجلاً ذكروا أنه وجد معه مكتوب من بعض النساء مرسل الى بعض أزواجهن بالعرضي، قتل ذلك الرجل بباب زويلة ونودي عليه: هذا جزاء من ينقل الأخبار الى العثملي والانكليز.
وفيه وصلت العساكر الشرقية الى العادلية وامتد العرضي منها الى قبلي منية السيرج وكذلك الغربية الى انبابة، ونصبوا خيامهم بالبرين والمراكب بينهم في النيل وضربوا عدة مدافع وخرج عدة من الفرنساوية خيالة فترامحوا معهم وأطلقوا بنادق ثم انفصلوا بعد حصة من الليل ورجع كل الى مأمنه واستمر هذا الحال على هذا المنوال يقع بينهم في كل يوم.
وفي سادسه، زحفت العساكر الشرقية حتى قربوا من قبة النصر وسكن ابراهيم بك زاوية الشيخ دمرداش، وحضر جماعة من العسكر وأشرفوا على الجزارين من حائط المذبح وطلبوا شيخ الجزارين ووجدوا ثلاثة أنفار من الفرنسيس، فضربوا عليهم بنادق فأصيب أحدهم في رجله، فأخذوه وهرب الإثنان، وأصيب جزار يهودي ووقع بين الفريقين مضاربة على بعد وقتل بعض قتلى وأسر بعض أسرى، ولم يزل الضرب بينهم الى قريب العصر والفرنسيس يرمون من القلعة الظاهرية وقلعة نجم الدين والتل ولا يتباعدون عن حصونهم.
وفي سابعه وقعت مضاربة بين الفريقين ببنادق ومدافع من الصباح الى العصر أيضاً.
وفيه أشيع موت السيد أحمد لمحروقي بدجوة وكان مريضاً بها وامتنع الوارد من الجهة البحرية بالكلية.
وفيه قبضوا على رجل يشبه خدام ظنوه جاسوساً فأحضروه عند قائمقام فسألوه فلم يقر بشيء فضربوه عدة مرار حتى ذهل عقله وصار كالمختل، وكرروا عليه الضرب والعقاب وضربوه بالكرابيج على كفوفه ووجهه وراسه، حتى قيل إنهم ضربوه نحو ستة آلاف كرباج وهو على حاله ثم أودعوه الحبس.
وفيه أطلقوا محبوساً يقال الشيخ سليمان حمزة الكاتب وكان محبوساً بالقلعة من مدة أشهر فطلق على مصلحة ألفي ريال.
وفي ثامنه وقعت مضاربة أيضاً بطول النهار ودخل نحو خمسة وعشرين نفراً من عسكر العثمانية الى الحسينة وجلسوا على مساطب القهوة وأكلوا كعكاً وخبزاً وفولاً مصلوقاً وشربوا قهوة ثم انصرفوا الى مضربهم وأخذ الفرنساوية عسكرياً من أتباع محمد باشا والى غزة والقدس المعروف بأبي مرق فحبسوه ببيت قائمقام وأغلقوا في ذلك اليوم باب النصر وباب العدوي.
وفيه زحفت عساكر البر الغربي الى تحت الجيزة، فحضر في صبحها بني وأخبر قائمقام فركب من ساعته وعدى الى بر الجيزة، فسمع الضرب أيضاً من ناحية الجيزة وسمعت طبول الأمراء ونقاقيرهم، واستمر الأمر الى يوم الثلاثاء حادي عشره، فبطل الضرب في وقت الزوال، ولما حصلوا جهة الجيزة انتشروا الى قبلي منها ومنعوا المعادي من تعدية البر الشرقي فانقطع الجالب من الناحية القبلية أيضاً فامتنع وصول الغلال والأقوات والبطيخ والعجور والخضراوات والخيار والسمن والجبن والمواشي، فعزت الأقوات وغلت الأسعار في الأشياء الموجودة منها جداً، واجتمع الناس بعرصة الغلة بالرميلة يريدون شراء الغلة فلم يجدوها فكثر ضجيجهم، وخرج الأكثر منهم بمقاطفهم الى جهة البساتين ورجع الباقون من غير شيء، فأحضر عبد العال القبانية وألزمهم بإحضار السمن وضرب البعض منهم فأحضروا له في يومين أربعة عشر رطلاً بعد الجهد في تحصيلها، وبيعت الدجاجة بأربعين نصفاً وامتنع وجود اللحم من الأسواق واستمر الأمر على ذلك الأربعاء والخميس والمضاربة بين الفريقين ساكنة، وأشيع وقوع المسالمة والمراسلة بينهما والمتوسط في ذلك الانكليز وحسين قبطان باشا فانسر الناس وسكن جأشهم لسكون الحرب.
وفي ذلك اليوم أغلقوا باب القرافة وباب المجراة ولم يعلم سبب ذلك، ثم فتحوهما عند الصباح من يوم الجمعة ورفعوا عشور الغلة.
وفي يوم الاثنين سابع عشره أطلقوا المحبوسين بالقلعة من أسرى العثمانية وأعطوا كل شخص مقطع قماش وخمسة عشر قرشاً، وأرسلوهم الى عرضي الوزير وكان بلغ بهم الجهد من الخدمة والفعالة وشيل التراب والأحجار وضيق الحبس والجوع ومات الكثير منهم وكذلك أفرجوا عن جملة من العربات والفلاحين.
وفي ليلة الإثنين المذكور سمع صوت مدفع بعد الغروب عند قلعة جامع الظاهر خارج الحسينية ثم سمع منها أذان العشاء والفجر، فلما أضاء النهار نظر الناس فإذا البيرق العثماني بأعلاها والمسلمون على أسوارها، فعلموا بتسليمها، وكان ذلك المدفع إشارة الى ذلك ففرح الناس وتحققوا أمر المسالمة، وأشيع الإفراج عن الرهائن من المشايخ وغيرهم وباقي المحبوسين في الصباح وأكثر الفرنساوية من النقل والبيع في أمتعتهم وخيولهم ونحاسهم وجواريهم وعبيدهم وقضاء أشغالهم.
وفي ذلك اليوم أنزلوا عدة مدافع من القلعة وكذلك من قلعة باب البرقية وأمتعة وفرش وبارود، وفي يوم الثلاثاء عمل الديوان وحضر الوكيل وأعلن بوقوع الصلح والمسالمة، ووعد أن في الجلسة الآتية يأتي إليهم فرمان الصلح وما اشتمل عليه من الشروط ويسمعونه جهاراً.
وفي ذلك اليوم أكثر اهتمام الفرنساوية بنقل الأمتعة من القلعة الكبيرة وباقي القلاع بقوة السعي.
وفيه أفرجوا عن محمد جلبي أبي دفية وإسمعيل القلق ومحمد شيخ الحارة بباب اللوق والبرنوسي نسيب أبي دفية والشيخ خليل المنير وآخرين تكملة ثمانية نفار ونزلوا الى بيوتهم.
وفيه سافر عثمان بك البرديسي الى الصعيد وعلى يده فرمانات للبلاد بالأمن والأمان وسوق المراكب بالغلال والأقوات الى مصر ويلاقي ستة آلاف من عسكر الانكليز حضروا من القلزم الى القصير.
وفيه شنق الفرنساوية شخصاً منهم على شجرة ببركة الأزبكية قيل إنه سرق.
وفيه أرسل الفرنساوية الى الوزير وطلبوا منه جمالاً ينقلون عليها متاعهم فأمر لهم بإرسال مائتي جمل وقيل أربعمائة مساعدة لهم، وفيها من جمال طاهر باشا وابراهيم بك.
وفي يوم الخميس عشرينه، أفرجوا عن بقية المسجونين والمشايخ وهم الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير والشيخ محمد المهدي وحسن آغا المحتسب ورضوان كاشف الشعراوي وغيرهم، فنزلوا الى بيت قائمقام وقابلوه وشكروه، فقال للمشايخ إن شئتم اذهبوا فسلموا على الوزير فإني كلمته ووصيته عليكم.
وفيه حضر الوزير ومن معه من العساكر الى ناحية شبرا وكذلك الانكليز وصحبتهم قبطان باشا الى الجهة الغربية والعساكر تجاههم ونصبوا الجسر فيما بينهم أعلى البحر وهو من مراكب مرصوصة مثل جسر الجيزة، بل يزيد عنه في الإتقان بكونه من ألواح في غاية الثخن وله درابزين من الجهتين أيضاً وهو عمل الانكليز.
وفيه ألصقوا أوراقاً بالطرق مكتوبة بالعربي والفرنساوي وفيها شرطان من شروط الصلح التي تتعلق بالعامة ونصها: ثم أنه أراد الله تعالى بالصلح ما بين عسكر الفرنساوية وعساكر الانكليز وعساكر العثمانية، ولكن مع هذا الصلح أنفسكم وأديانكم ومتاعكم ما أحد يقارشكم ورؤوس عساكر الثلاثة جيوش قد اشترطوا بهذا كما ترونه، الشرط الثاني عشر: كل واحد من أهالي مصر المحروسة من كل ملة كانت الذي يريد أن يسافر مع الفرنساوية يكون مطلق الإرادة، وبعد سفره كامل ما يبقى عياله ومصالحه ما أحد يعارضهم، الشرط الثالث عشر: لا أحد من أهالي مصر المحروسة من كل ملة كانت يكون قلقاً من قبل نفسه ولا من قبل متاعه. جميع الذين كانوا بخدمة الجمهور الفرنساوي بمدة إقامة الجمهور بمصر، ولكن الواجب أن يطيعوا الشريعة، ثم يا أهالي مصر وأقاليمها جميع الملل أنتم ناظرون لحد آخر درجة الجمهور الفرنساوي ناظر لكم ولراحتكم، فيلزم أنتم أيضاً تسلكون في الطريق المستقيمة وتفتكرون أن الله جل جلاله هو الذي يفعل كل شيء، وعليه إمضاء بليار قائمقامز وفي يوم الجمعة عملوا الديوان وحضر المشايخ والوكيل، فقال الوكيل هل بلغكم بقية الشروط الثلاثة عشر، فقالوا لا، فأبرز ورقة من كمه بالقلم الفرنساوي فشرع يقرؤها والترجمان يفسرها، وهي تتضمن الأحد عشر شرطاً الباقية، فقال إن الجيش الفرنساوي يلزم أن يخلوا القلاع ومصر ويتوجهوا على البر بمتاعهم الى رشيد وينزلوا في مراكب ويتوجهوا الى بلادهم، وهذا الرحيل ينبغي أن يسرع به وأقل ما يكون في خمسين يوماً، وأن يساق الجيش من طريق مختصر وسر عسكر الانكليز والمساعد يلزم أن يقوما لهم بجميع ما يحتاجونه من نفقة ومؤونة وجمال ومراكب، والمحل الذي يبدأ منه السعي يكون بالتراضي بين الجمهور والانكليز والمساعد وكامل الأمتعة والأثقال تتوجه من البحر ومعهم جيش من الفرنساوي لأجل الحراسة، ولابد من كون المؤونة التي تترتب لهم كالمؤونة التي كانوا يعطونها هم لجيش الانكليز ورؤسائهم، وعلى رؤساء عساكر الانكليز وحضرة العثملي القيام بنفقة الجميع. والحكام المتقيدون بذلك يحضرون لهم المراكب ليسفروهم الى فرانسا من جهة البحر المحيط. ولن يقدم كل من حضرة العثملي والانكليز أربعة مراكب للعليق والعلف للخيل التي يأخذونها في المراكب، وأن يسيروا معهم مراكب للمحافظة عليهم الى أن يصلوا الى فرانسا، وأن الفرنساوية لا يدخلون مينة إلا مينة فرانسا والأمناء والوكلاء يقدمون لهم ما يحتاجون إليه نظراً لكفاية عساكرهم، والمدبرون والأمناء والوكلاء والمهندسون الفرنساوية يستصحبون معهم ما يحتاجونه من أوراقهم وكتبهم ولو التي شروها من مصر، وكل من أهل الإقليم المصري إذا أراد التوجه معهم فهو مطلق السراح مع الأمن على متاعه وعياله، وكذلك من داخل الفرنساوية من أي ملة كانت فلا معارضة له إلا أن يجري على أحواله السابقة. ويجرحى الفرنساوية يتخلفون بمصر ويعالجهم الحكماء وينفق عليهم حضرة العثلمي، وإذا عوفوا توجهوا الى فرانسا بالشروط المتقدم ذكرها، وحكام العثملي يتعهدون من بمصر منهم ولابد من حاكمين من طرف الجيشين يتوجهان بمركبين الى طولون فيرسلون خبراً الى فرانسا ليطلعوا حكامها على الصلح وسائر الرسوم، وكل جدال وخصام صدر بين شخصين من الفرنساوية فلابد أن يقام شخصان حاكمان من الطائفتين ليتكلما في الصلح ولا يقع في ذلك نقض عهد الصلح، وعلى كل طائفة معين من العثملي والفرنساوي أن تسلم ما عندها من الأسرى ولابد من رهائن من كل طائفة واحد يكون عند الطائفة الأخرى حتى يتوصلوا الى فرانسا، ثم قال الوكيل: وقد علمنا بالشروط وما ندري ماذا يكون، فقيل له هذه شروط عليها علامة القبول وهذا الصلح رحمة للجميع وسيكون الصلح العام، قال الوكيل إني أرجو أن يكون هذا الصلح الخصوصي مبدأ للصلح العمومي.
وفيه كثر خروج الناس ودخولهم من الأتباع والباعة والمتنكرين من نقب البرقية المعروف بالغريب، فصار الحرسجية من الفرنساوية يأخذون من الداخل والخارج دراهم ولا يمنعونهم. فلما علم الناس بذلك كثر ازدحامهم، فلما أصبحوا منعوهم فدخلوا وخرجوا من باب القرافة فلم يمنعهم الواقفون به من الفرنسيس بل كانوا يفتشون البعض ويمنعون البعض، وكل ذلك حذراً من أفعال الطموش وسوء أخلاقهم، وتولد الشر بسببهم وقد دخل بعضهم أكابر الانكليز وصحبتهم فرنساوية يفرجونهم على البلدة والأسواق، وكذلك دخل بعض أكابر العثمانية فزاروا قبر الإمام الشافعي والمشهد الحسيني والشيخ عبد الوهاب الشعراوي والفرنساوية ينتظرونهم بالباب.
وفي ليلة الإثنين رابع عشرينه نادوا في الأسواق برمي مدافع في صبحه وذلك لنقل رمة كلهبر فلا يرتاع الناس من ذلك، فلما كان في صبح ذلك اليوم أطلقوا مدافع كثيرة ساعة نبش القبر بالقرب من قصر العيني وأخرجوا الصندوق الرصاص الموضوع فيه رمته ليأخذوه معهم الى بلادهم.
وفيه أرسلوا أوراقاً ورسلاً للاجتماع بالديوان وهو آخر الدواوين، فاجتمع المشايخ والتجار وبعض الوجاقلية واستوف الخازندار والوكيل والترجمان، فلما استقر بم الجلوس أخرج الوكيل كتاباً مختوماً وأخبر أن ذلك الكتاب من ساري عسكر منو بعث به الى مشايخ الديوان، ثم ناوله لرئيس الديوان ففضه وناوله للترجمان فقرأه والحاضرون يسمعون، وصورته: بعد البسملة والجلاة والصدر، نخبركم أنا علمنا بكثرة الانبساط أنكم تهتدون بكثرة الحكمة والإنصاف في الموضع الذي أنتم مستمرون فيه وإن لم تقدروا لتنظيم أهالي البلد بالهدى والطاعة الموجبة منه لحكومة الفرنساوي، فالله تعالى بسعادة رسوله الكريم عليه السلام الدائم ينعم عليكم في الدارين عض خيراتكم، وأخبرنا المقدام الجسور بونابارته المشهور عن كل ما فعلتم حاكماً ونافعاً بوصايا لأجلكم سارة رضي واستراح لتلك الفعال الجيدة وعرفني أيضاً أنه عن قريب يرسل لكم بذاته جواب جميع مكاتيبكم إليه، فدمتم الآن بخير الهدى وبقوته تعالى نرى فضائلكم عن قريب ونواجه سكان محروسة مصر كما هو مأمولنا، لكن يسركم أن الجمهور المنصور غلب في أقاليم الروم جميع أعدائه وبعون الله هادي كل شيء سيغلب كذلك العدا في مصر. واعتمدوا بأكثر الاعتماد على الستويان جيرار هذا الذي وضعناه قربكم لأنه هو رجل مشهور بالعدل والاستقامة، ونوجه إلى هممكم النصيحة الى زوجتنا الكريمة السيدة زبيدة وولدنا العزيز سليمان مراد، أن كليهما حالا كائنان في حصننا في مصر الخ، وذكر كثيراً من أمثال هذه الخرافات والتمويهات، ثم أخرج ورقة بالفرنساوي وقرأها بنفسه حتى فرغ منها، ثم قرأ ترجمتها بالعربي الترجمان رفاييل، ومضمونها: حصول الصلح وتمويهات وهلسيات ليس في ذكرها فائدة، ولما انتهى من قراءتها أبرز أيضاً استوف الخازندار ورقة وقرأها بالفرنساوي. ثم قرأ ترجمتها بالعربي الترجمان، وهي في معنى الأولى.
وركب المشايخ وخرجوا للسلام على الوزير يوسف باشا الذي يقال له الصدر الأعظم. والسلام على القادمين معه أيضاً من أعيان دولتهم والأمراء المصرية، وكانوا عزموا على الذهاب في الصباح فعوقوا لبعد الديوان، وأما الشيخ السادات فإنه خرج للسلام من أول النهار. وكتب لهم قائمقام أوراقاً للحرسجية لأنهم مستمرون في منع الناس من الدخول والخروج وأبواب البلد مغلقة، وكان خروجهم من طريق بولاق، فلما وصلوا الى العرضي سلموا على ابراهيم بك وتوجه معهم الى الوزير، فلما وصلوا الى اصيوان أمروهم برفع الطياسانات التي على أكتافهم وتقدموا للسلام عليه، فلم يقم لقدومهم فجلسوا ساعة لطيفة وخرجوا من عنده. وسلموا أيضاً على محمد باشا المعروف بأبي مرق وعلي المحروقي والسيد عمر مكرم وباتوا تلك الليلة بالعرضي ثم عادوا الى بيوتهم.
وفي ثاني يوم عدوا الى البر الغربي وسلموا على قبطان باشا ورجعوا الى منازلهم.
وفيه أرسل ابراهيم بك أماناً لأكابر القبط فخرجوا أيضاً وسلموا ورجعوا الى دورهم. وأما يعقوب فإنه خرج بمتاعه وعازقه وعدى الى الروضة، وكذلك جمع إليه عسكر القبط وهرب الكثير منهم واختفى، واجتمعت نساؤهم وأهلهم وذهبوا الى قائمقام وبكوا وولولوا وترجوه في إبقائهم عند عيالهم وأولادهم فإنهم فقراء وأصحاب صنائع ما بين نجار وبناء وصائغ وغير ذلك، فوعدهم أنه يرسل الى يعقوب أنه لا يقهر منهم من لا يريد الذهاب والسفر معه.
وفيه ذهب بليار قائمقام وصحبته ثلاثة أنفار من عظماء الفرنسيس الى العرضي وقابلوا الوزير، فخلع عليهم وكساهم فراوي سمور ورجعوا.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره، خرج المسافرون مع الفرنساوية الى الروضة والجيزة بمتاعهم وحريمهم وهم جماعة كثيرة من القبط وتجار الإفرنج والمترجمين وبعض مسلمين ممن تداخل معهم، وخاف على نفسه بالتخلف وكثير من نصارى الشوام والأروام مثل يني وبرطلمين ويوسف الحموي، وعبد العال الآغا أيضاً طلق زوجته وباع متاعه وفراشه وما ثقل عليه حمله من طقم وسلاح وغيره فكان إذا باع شيئاً يرسل خلفه المشتري ويلزمه بإحضار ثمن في الحال قهراً ولم يصحب معه إلا ما خف حمله وغلا ثمنه.
وفيه حضر وكيل الديوان الى الديوان وأحضر جماعة من التجار وباع لهم فراش المجلس بثمن قدره ستة وثلاثون ألف فضة على ذمة السيد أحمد الزرو.
وفي ذلك اليوم أيضاً فتحوا باب الجامع الأزهر وشرعوا في كنسه وتنظيفه.
وفي ذلك اليوم وما بعده دخل بعض الانكليز ومروا بأسواق المدينة يتفرجون وصحبتهم إثنان أو واحد من الفرنسيس يعرفونهم الطرق.
وأشيع في ذلك اليوم ارتحال الفرنساوية ونزولهم من القلاع وتسليمهم الحصون من الغد وقت الزوال.
فلما أصبح يوم الخميس ومضى وقت الزوال لم يحصل ذلك فاختلفت الروايات، فمن الناس من يقول ينزلون يوم الجمعة ومنهم من يقول إنهم أخذوا مهلة ليوم الإثنين، وبات الناس يسمعون لغط العساكر العثمانية وكلامهم ووطء نعالاتهم، فنظروا فإذا الفرنساوية خرجوا بأجمعهم ليلاً وأخلوا القلعة الكبيرة وباقي القلاع والحصون والمتاريس وذهبوا الى الجيزة والروضة وقصر العيني ولم يبق منهم شبح يلوح بالمدينة وبولاق ومصر العتيقة والأزبكية، ففرح الناس كعادتهم بالقادمين وظنوا فيهم الخير وصاروا يتلقونهم ويسلمون عليهم ويباركون لقدومهم والنساء يلقلقن بألسنتهن من الطيقان وفي الأسواق، وقام للناس جلبة وصياح وتجمع الصغار والأطفال كعادتهم ورفعوا أصواتهم بقولهم نصر الله السلطان ونحو ذلك، وهؤلاء الداخلون ودخلوا من نقب الغريب المثقوب في السور وتسلقوا أيضاً من ناحية العطوف والقرافة، وأما باب النصر والعدوي فهما على حالهما مغلوقان لم يأذنوا بفتحهما خوفاً من تزاحم العسكر ودخولهم المدينة دفعة واحدة فيقع فيهم الفشل والضرر بالناس، وباب الفتوح مسدود بالبناء، فلما تضحى النهار حضر قبي قول وفتح باب النصر والعدوي وأجلس بهما جماعة من الينكجرية ودخل الكثير من العساكر مشاة وركباناً أجناساً مختلفة، ودخلت بلوكات الينكجرية وطافوا بالأسواق ووضعوا نشاناتهم وزنكهم على القهاوي والحوانيت والحمامات، فامتعض أهل الأسواق من ذلك وكثر الخبز واللحم والسمن والشيرج بالأسواق وتواجدت البضائع وانحلت الأسعار وكثرت الفاكهة مثل العنب والخوخ والبطيخ وتعاطى بيع غالبها الأتراك والأرنؤد، فكانوا يتلقون من يجلبها من الفلاحين بالبحر والبر ويشترونها منهم بالأسعار الرخيصة ويبيعونها على أهل المدينة وبولاق بأغلى الأثمان، ووصلت مراكب من جهة بحري وفيها البضائع الرومية واليميش من البندق واللوز والجوز والزبيب والتين والزيتون الرومي.
فلمما كان قبل صلاة الجمعة وإذا بجاويشية وعساكر وأغوات وتلا ذلك حضرة يوسف باشا الصدر فشق من وسط المدينة وتوجه الى المسجد الحسيني فصلى فيه الجمعة وزار المشهد الحسيني، ودعاه حضرة الشيخ السادات الى داره المجاورة للمشهد فأجابه فدخل معه وجلس هنيهة، ثم ذهب الى الجامع الأزهر فتفرج عليه وطاف بمقصورته وأروقته وجلس ساعة لطيفة، وأنعم على الكناسين والخدمة بدراهم وكذلك خدمة المسجد الحسيني، ثم ركب راجعاً الى وطاقه بناحية الحلي بشاطئ النيل، وعملوا في ذلك الوقت شنكاً وضربوا مدافع كثيرة من العرضي والقلعة ودخل قلقات الينكجرية وجلسوا برؤوس العطف والحارات وكل طائفة عندها بيرق ونادوا بالأمان البيع والشراء، وطلب أولئك القلقات من أهل الأخطاط المآكل والمشارب والقهوات وألزموهم بذلك، وانحاز الفرنساوية الى جهة قصر العيني والروضة والجيزة الى حد قلعة الناصرية وفم الخليج وعليها بنديراتهم، ووقف حرسهم عند حدهم يمنعون من يأوي الى جهتهم من العثمانية، فلا يمر العثماني إلا الى الجهة الموصلة الى بولاق وأما إذا كان من أهل البلد فيمر حيث أراد، وفي مدة إقامة المشار إليه بساحل الحلي ببولاق خرب عساكره ما قرب منهم من الأبنية والسواقي والمتريز الذي صنعه الفرنساوية من حد باب الحديد الى البحر وأخذوا ما بذلك من الأفلاق الكثيرة المتهدمة والأخشاب المنجرة المرصوصة فوق المتريز وتحته وف يالخندق، فخربوا ذلك جميعه في هذه المدة القليلة وذلك لأجل وجود النار والمطابخ.
وفي يوم السبت دخل قبي قول وهو المسمى عند المصريين كتخدا الينكجرية وشق المدينة وأمر بمحو نشانات الانكشارية من الحوانيت ولم يترك إلا القهاوي.